الأربعاء، مارس ٢٤، ٢٠١٠

مع الأسرار.. قبل الأنوار!

عودة الفرسان (2) مع الأسرار.. قبل الأنوار!



كنت قابع بزاوية من زوايا سور القسطنطينية القديم، قريبًا من باب المدرسة، أنتظر قدوم المعلم، حتى إذا بلغ العصف مداه انتفض بديع الزمان سعيد النورسى، وأطل من فوق قباب المدينة، ثم مد جناحيه العظيمين حول أسوارها حتى أحاط بجميع الأبواب! فظل كذلك زمنًا يكابد وحده، ويجاهد قصف الريح وحده! وكلما أطل من تحت جناحيه وراى سكون البلابل خلف القباب، دمعت عيناه فى قرّ الريح! وصاح فى تيارها الشدشد: "ياسعيد..! كن صعيدًا حتى لا تعكر صفو رسائل النور..!"
حتى إذا هدات العاصفة، قرأ سورة الفتح، ثم فتح الأبواب وانصرف..!
ناديته بأعلى صوتى:
- ياسيدى المعلم! أما لأخر الفرسان من عودة.
التفت إلى بعبسة ترسم ملامح الإنكار على صفحة وجهه المهيب! ورمانى بنور لاهب من وجع عينيه! ثم قال:
- ويحك أيها الفتى المغرور! أما علمت أن لكل زمان صاحبه؟
- قلت: ومن يغلق أبواب الريح إذا هاج العصف من جديد؟
- قال لى: هذا مقام الفتح ياولدى فليس لزمانه من إغلاق!
- قلت: عجبًا ياسيدى! وما فتحٌ فى زمن ليس تطيق عواصفه الأبواب، ولا أسوار مدينتنا!؟
- قال: ما أجهلك يا ولدى بزمانك! ارفع رأسك قليلا نحو الأفق الأعلى؛ تَرَ شمس البشرى ترتفع الهوينى من خلف الأحزان، وتَرَ كلمات النور الأولى ترسم بين يديها قوس قزح، وتطرز على موج البحر نبؤتها.. فإذا كنتَ ممن يحسن لغة الماء فاقرأ: "تُفْتَحُ القسطنطينيةُ أوَّلاً ثم تفتح روميةُ"!؟
- قلت: بأبى وأمى أنت يا سيدى! وما روميةُ؟
- قال: رومية يا ولدى امرأة ساحرة تسكن بين جوانحنا! هى عاصفة الشيطان الكبرى.. تنغرز قوائمها الأربع فى بحر الظلمات! ولها فى كل العالم أدخنة وحرائق! فى كل يوم تُحَرِّقُ ألف عصفور وحمامة! جيش النور الآن تجرد لها بأسلحة من وهج الشمسن وأميره يرتل من خلف الغيب سورة النصر، خاتمةً لمحن المستضعفين!.. وقريبا جدا ستر عجبا! جيش النور اليوم فى كل العالم يقتبس من مشكاة الليل الأخضر زادًا للسير! فانظر ما حظك من مواجيده يا ولدى!
- قلت: وما سيماء أميره يا سيدى؟
_ قال: لا تتعب نفسك يا ولدى فى طلب الألقاب! فإنما هو طيفٌ، أو معنى، أو روح! بل هو قلبٌ من نور وهاج! هو جيش من ذَوْبِ الشمس، هو أشجان قلبٍ وترانيم روح، هو مكابدة حُبٍّ لم يزل جرحه ينزف من خابية مشقوقة! هو آهاتُ أشواقٍ ارتقت ما بين سجود وركوع، فتشكلت فى الفضاء غيمةً ربيعيةَ اللون، مكتنزةً بالخير وبالبركات! لم تزل تهطل بالغيث فى كل قارات الأرض! فَارْقُبْ إن شئت حدائقها أنَّى رحلت؛ تجد وردتها متفتحة الأجفان ندية!
- قلت: فما نَسَبُهُ ومكانه؟ ما مولده وزمانُه؟
- قال: ويحك يا صاح! أما صاحب هذا الزمان فله مولدان اثنان! أولهما هو فى المكان، وقد كان الذى كان. وأما الثانى فإنما هو فى الزمان! فَارْتَقِبْ إبَّانَ هيجان الروح، يوم تأتى الرياح بحدأ الأنين! فإنه لا ميلاد إلا بألم! واظفر بثانى المولدين تَرِبَتْ يداك! إنك يا ولدى إن تدرك إشراقته تكن من الفاتحين!
- قلت: فهل لى أن أكون من طلائعهم؟
- قال: بل دون إدراك منازلهم كلمةً سِرِّ مخفية فى حويصلة الطير!
- قلت بلهق: أى طير يا سيدى؟
وانقطعت التجليات!
.....
هذه اسطنبول مرة أخرى..! نادانى خاطرٌ حزين! قال لى: مقامك حيث أقامك! لا مكان لك اليوم يا صاح إلا بمنزلة الاستغفار! فصرت أسمع صوتًا من أعماق فؤادى، يتكسر موجُه هونًا على شط لسانى: رب اغفر لى..! رب اغفر لى..!
......
حدثنى راوى الشجان قال:
محاضن الطفولة هى مزارع الأسرار.. فى تربتها تُدفن بذور النور، وخريطة الفتح الآتى، ومواعيد الزمان الجديد! ومكن يدرى؟ فلعلك هناك تتعلم من "فتح الله" كيف تكون رجلا! ولعله يضرب لك موعدًا من لثغ طفولته لزحف الخيل الصافنة خلف غيوم اسطنبول، ومواعيد أخرى لدخول عواصم دول العالم، وعبور البوغاز إلى أندلس الأحزان.. وخوضِ بحار أخرى فى وجع فى وجع الليل؛ فرومية ما زالت جثتها تجثم فوق فراخ فلسطين! وليس بين دخول المارد قمقمه وبين شروق الشمس، إلا كلمة سر!.. ولعلك يا صاح تكون هناك!
قال لى: هى مَحَاضِنُ لا تتاح لكل الناس.. إنما من تهيئ القَدَرِ الإلهى، لمن شاء الله أن يجعل لهم من أمره قَدْرًا! فما جاء وَلِىٌّ أو مجددٌ إلا على قَدَرٍ، وما فاض نهر إلا بعد هُطُولِ مَطَر! فاحمل عصا سياحتك يا ولدى وارحل! فما كان للسائح فى فلك النفوس الكبار إلا أن يعود كبيرًا!
وقبل أن ينهى راوى الأشجان حديثه، همس لى وقال:
فتح الله لديه سر ليس يبوح به!..
فتح الله لديه سرّ تنتظره الدنيا، لكن لا يخبر أحدًا!..
فتح الله يحمل فى قلبه ما لاطاقة له به، ولذلك لم يزل يبكى حتى احتار الدمع لمأته!
فتح الله وارث سر، لو ورثه الجبل العالى، لانهد الصخر من أعلى قمته، ولخرت أركان قواعده رهبا!
فتح الله فارس ليس تلين عريكته، ولا تضعف شكيمته! ولصوته فى الكرِّ أشدُّ من فرقعة الرعد! يقاتل فى النهار حتى تذوب الشمس فى دماء البحر، فإذا خلا لأشجان الليل بكى..!

8ربيع الأخر 1431

ليست هناك تعليقات: