الخميس، فبراير ٠٥، ٢٠٠٩

أنـــــــا.. عبقرية العقاد



لا أعرف كيف أكتب عنه ، فهذا الرجل الذى حينما داعبه صديقه بعد أن استقبلا فى ركن من أركان ردهة المائدة الصغيرة صندوقًا مربعًا به حاكٍ ( راديو او مشغل الاسطوانات ) فقال الصديق: إن هؤلاء العازفين فى موضعهم هنا لأنهم يعزفون لك على الطعام ، فلا يفوتك حظ الخواقين والشاهات ( مش عارف معناهم بس شكلهم حاجه كبيرة ) فى قصور البذخ والسلطان!
فأجابه العقاد: إن الإنسان يا أخانا لا يأكل أكلتين فى لحظة واحدة: أكلة روح وأكلة معدة، وما من كرامة الموسيقى الرفيعة أن تشتغل بشئ آخر وأنت تستمع إليها.
هذا ما قاله العقاد لصديقه حينما داعبه ، فماذا كان سيقول حينما يسمع الآن ( وانا أكتب هذه الكلمات ) أغانى فرح شعبى من الطراز المتدنى !
يا لسخرية القدر!! أكتب عن العقاد وتصم أذنى أغانى من نوعية ( أنا شارب سيجارة بنى ) !!!
ولنبدأ مع العقاد كما فى كتابه ( أنـــــا ) .
فيبدأ العقاد الكتاب بالحديث عن نفسه فيقول إنه يرى نفسه عكس ما يراه الناس.
فيقول: فعباس العقاد هو فى رأى بعض الناس ـ مع اختلاف التعبير وحسن النية ـ هو رجل مفرط الكبرياء.. ورجل مفرط القسوة والجفاء..
ورجل يعيش بين الكتب، ولا يباشر الحياة كما يباشرها سائر الناس.
ورجل يملكه سلطان المنطق والتفكير ولا سلطان للقلب ولا للعاطفة عليه.!
ورجل يصبح ويمسى فى الجد الصارم فلا تفتر بضحكة واحدةإلا بعد استغفار واغتصاب.
هذا هو عباس العقاد فى رأى بعض الناس.
ويقسم العقاد بكل ما يقسم به الرجل الشريف أن هذا الرجل لا يعرفه ولا رأه ولا عاش معه لحظة واحدة ، ولا التقى به فى طريق.. ونقيض ذلك هو الأقرب إلى الصواب.
ويقول العقاد أنه لا يزعم أنه مفرط فى التواضع ولا فى الرقة واللين.
ولكننى أعلم علم اليقين أننى أجازف بحياتى، ولا أصبر على منظر مؤلم أو على شكاية ضعيف.
ويستدل العقاد على هذه الأوصاف التى خلعها على نفسه بحكاية..
أنه عندما كنت فى سجن مصر رجوت الطبيب أن يختار لى وقت للرياضة غير الوقت الذى تنصب فيه آلة الجلد لعقوبة المسجونين.
فدهش الطبيب، ظن أنه يسمع نادرة من نوادر الأعاجيب..
وقال لى فى صراحة: ما كنت أتخيل أن أسمع مثل هذا الطلب من العقاد "الجبار".
ومن يعتقد أن كتابات العقاد تحمل من اسمه الكثير ( التعقيد ) فهو خاطىء، فهو يكتب مذكراته بأسلوب سلس ، لا لبس فيه ولا غموض ـ اللهم إلا من بعض الكلمات القليلة التى كانت دارجة فى زمانهم واختفت الآن أو ندر استخدامها ـ.
فهو يتحدث عن أبيه وفى كلماته مسحة وقار واحترام ، وبالرغم من ذلك يذكر قصة طريفة..
كان لأبى حمار ينتقل عليه من قرية إلى قرية، حين كان معاونًا للإدارة، فلما استقر فى المدينة باعه لبعض المكارين ( جمع مكارى وهو العربجى ) ، وكان الحمار مشهورًا بالسرعة وهدوء الحركة، فكان المستأجرون يطلبونه فيقولون: "هات حمار العقاد" ثم اختصروا كعادتهم فأصبحوا يطلبونه فيقولون: " هات العقاد! هات العقاد" فلما سمع بذلك عاد فاشتراه وقبل المغالاة فى ثمنه على غير حاجة إليه ، وهذا لأنه لم يكن يغضب لشىء كما كان يغضب لكرامته وسمعة اسمه.
وحينما يتحدث عن الطفولة فيقول: إن الذاكرة ملكة مستبدة، ويراد بنسبة الاستبداد إلى هذه الملكة العقلية أنها تحفظ وتنسى على غير قانون ثابت.
واجمل المناظر التى تحتفظ بها الذاكرة من ذخائر العاشرة ـ وما دونها ـ منظر فتاة أوربية هيفاء ( مش هيفاء بتاعة الكليبات ) لفت نظرى أنها تسير وسط المدينة وتدير على خصرها حزامًا "أو مشدا" لا يزيد قطره على بضعة قراريط.. وتخطر فى الطريق الوعر كأنها تلمس أغصان الشجر بقدمى قطاة.
ولم أكن أفهم يومئذ أن نحافة الخصر جمال محبوب، ولكننى فهمت أنه أعجوبة نادرة، وتبعت الفتاة الهيفاء حول منعطفات الطريق، ولا أعلم لماذا أتبعها، ولايدور فى خلدى خاطر غير الاستزادة من هذا المنظر العجيب، الرشيق.
والعقاد يتصف بالذكاء منذ الصغر، فهو حينما تحدث عن أحد مدرسيه قال: كان لى أستاذ حساب وهندسة، يؤمن بالخرافات وشفاعة الأولياء، وكان محدود الفهم فى دروسه ولا سيما المسائل العقلية فى درس الحساب.
وكان يتردد على مسجد يعتكف فى زاويته رجل من المشهورين بالولاية وصنع الكرامات فدعانا جميعًا ـ نحن تلاميذ السنة النهائية ـ إلى صلاة المغرب معه فى ذلك المسجد، للتبرك بالرجل الصالح، وتلقى النصائح منه.
وجاء دورى فى تلقى النصيحة، فقال لى الرجل: "أما أنت فعليك باللغة الإنجليزية"..
وعجبت وعجب زملائى من هذه النصيحة، لأننى كنت من المتقدمين فى هذه المادة على الخصوص، ولكن زملائى فسروا هذه النصيحة بسر الولاية..
فلما اجتمعنا بالمدرسة فى أول حصة للحساب، قال الأستاذ الرياضى:
"تذكر نصيحة الشيخ يا فلان ؟"
قلت: "إن الشيخ لم يقل شيئًا"
قال وهو يحوقل: "كيف لم يقل شيئًا؟.. ألم ينصحك بالاجتهاد فى اللغة الإنجليزية ؟"
قلت: "نعم فعل.. ولكنه سيظفر بالسمعة فى علم الغيب أيا كانت النتيجة، فإن نجحت قيل إنها بركة لنصحه، وإن أخفقت قيل إنه قد عرف هذا فحذرنى منه"
وإلى لقاء آخر إن شاء الله..