الخميس، يناير ١٤، ٢٠١٠

القاهرة بين 2030 و 2050


قد يعتقد البعض أن ما سأكتبه هو ترف، أو أنه موضوع لا يمت إلى القضايا الكيرى بأى صلة، وقد يكون البعض محق ـ وقد لا يكون ـ وعلى كل، فالمثير فى الأمر حقًا أن مجموعة من الأساتذة فى الجامعات المصرية مع مجموعة من الباحثين والمتخصصين فى مجالات شتى اجتمعوا معًا لكى يبنوا مدينة القاهرة، قد يتسائل أحدكم وهل القاهرة لم تبنى أو تعمر بعد؟!.
الحقيقة أن هؤلاء الأساتذة أجمعوا على أنها الآن ليس مُعمَرة. فالموجود الآن هو مجموعة من العشوائيات والأحياء غير المخططة.
جائتنى دعوة كريمة من الدكتورة هبة روف عزت على إيميلى تدعونى لحضور مؤتمر بعنوان مستقبل القاهرة رؤى وبدائل فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. كانت الدعوة بطبيعة الحال غريبة (وسأذكر فى نهاية الموضوع لماذا غريبة ) وعلى كل ذهبت، وكانت المفاجئة، حيث الحديث عن مدينة القاهرة وعن تطويرها وتحديثها لم يكن ضمن إهتماماتى ولكنى فوجئت بهذه النظرة المغايرة وهذا الطرح الغريب عن مدينة أعيش فيها منذ ست سنوات تقريبًا ولم يكن يخطر ببالى أن هذه المدينة بها شئ غريب، بل كنت أعتقد أنها فى أفضل حالاتها، وأنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان.

وانا هنا لن أستعرض المؤتمر بكامله، ولكنى ساحاول أن أروى جزء مما قيل فيها.
هناك مشكلة فى النظر إلى القاهرة هل ننظر للقاهرة المدينة الفعلية ( المحافظة ) أم ننظر للقاهرة العاصمة (القاهرة الكبرى )، أم ننظر للقاهرة المدن الجديدة أم قاهرة وسط البلد أم القاهرة الفاطمية أم بكل أسف قاهرة العشوائيات.

هذه قاهرات مقهورات تختلط مع بعضها فتنتج القاهرة. ولكن حقيقة مشكلة القاهرة تكمن فى كل هذا، فى العشوائيات والمدن الجديدة ـ التى تصفها الدكتورة هبة بالعشوائيات أيضًا كمدينة نصرـ وتكمن فى كونها العاصمة التى تعتمد المركزية لتخليص الأوراق فيأتى إليها المواطنون من جميع المحافظات، سمعت كثير من المشكلات حتى كدت أضيق ذرعًا بهذه المدينة القاهرة.
حتى غن الأستاذ جمال الشربينى استعرض بالصور سير مواطن (1800) متر واجه فيها (183) عقبة سير بين أشجار وكابينة تليفون وكشك سجائر وعامود نور (ومنشر غسيل بتاع حلاق ) موجود على الرصيف وسيارات على الرصيف ويقول الأستاذ الشربينى أن حقوق الإنسان كثيرة كالحق فى التعبير والحق فى الغذاء و...، الحق فى المشى ـ قلت لكم قد يعتقد بعضكم أن هذا طرف ـ

وكانت هناك تجربة جيدة للأستاذ خليل شعت فى منشية ناصر (منسأة ناصر) التى يسكنها 1200000(مليون ومائتى ألف) مواطن ويصفها شعت بأنها تتمتع بنسيج اجتماعى قوى، وقد قام بتقنين 7 شياخات حيث المنازل هناك ليست قانونية ـ فشعت تابع لوحدة تطوير العشوالئيات بمحافظة القاهرة ـ وعمل مشاركة شعبية حيث اجتمع بالشباب وتم عمل مجموعات لتطوير هذا الحى ويقول أن أحد الشباب قام بحذف بيته ـ لتوسيع الشارع ـ من الخريطة الجديدة لكى يتم تطوير منشأة ناصر ـ بالطبع كل هذا على الورق ـ وهذا يدلل على ما كتبه الأستاذ على الصاوى فى ورقة بحثية من أننا شعب يميل إلى الفوضى؛ ولكنه يقدر النضام!!، بل ويكون مستعد لدفع ثمن اكبر فى الخدمة مقابل انتظامها وجودتها.
نحن شعب يميل إلى الفوضى؛ ولكنه يقدر النضام!!، بل ويكون مستعد لدفع ثمن اكبر فى الخدمة مقابل انتظامها وجودتها

جدير بالذكر أنه تم استعراض حلول لهذه المدينة القاهرة
، وقد كانت هناك رؤيتان للعاصمة واحدة 2030 والأخرى 2050، ولكنهما للأسف كانا بهما تجنى على المدينة.
فرؤية القاهرة 2050 (عالمية - خضراء - مترابطة) التى قدمته د. غادة فاروق ـ تابعة لهيئة التخطيط العمرانى ـ كان شكله غريب فهى استعرضت فى الأول مجموعة من الصور ـ مع شرحها هى بصوتها ـ للمدينة المتوقعة وكانت أغلب الصور عبارة عن صور مدن أمريكية فهى عبارة عن ناطحات سحاب ومبانى زجاجية، بالطبع هذا عنصر جذب للبعض ولكن به فقدان للهوية والثقافة ووجدتنى كاتب فى أجندتى تعلي
قًا على هذه العرض "مدينة عالمية على أرض مصرية، أم مدينة أمريكية على أرض مصرية".
وهى فى الغالب بناء لمبانى جديدة رغم أن هناك حوالى أكثر من 2.000.000 ( 2 مليون ) وحدة سكنية خالة غير ساكنة. وهذه بطبيعة الحال ليس خالية لعدم وجود مرافق ولكنها خالية لأنها غاليةالثمن.
أما الأستاذة نسرين لحام ـ تابعة لمركز الدراسات المستقبلية التابع لمجلس الوزراء ـ قدمت لنا عرض عن القاهرة 2030، وهى لم تقع فى فخ زميلتها السابقة من عرض صور لمدينة أوربية فهى اكتفت بالشرح الصوتى ـ المميز حيث لها أصول أردنية وطريقا نطقها للكلمات جذابة ـ وقد كان عرضها عن عاصمة جديدة وليس تطوير القاهرة مع الإبقاء على القاهرة الثقافية والسياحية.
وقالت لحام بأن العاصمة تم تغيرها (17) مرة وكان اغلب هذه التغيرات بسبب تغيير الحكم (النظام) والحكام (الأشخاص).
وتحدد موقعها بجانب المنيا فى الظهير الصحراوى على بعد (300) كيلو متر من القاهرة لكى يذهبوا ولا يعودوا ـ على حد تعبيرها ـ، وظهر هنا عيب سألتها عنه فلم تجب برد مقنع وهو أنه حينما تنتقل العاصمة سينتقل الموظفون معها وستبقى القاهرة بالفقراء والعاطلين ـ يجب أن نعرف ان مثل هذه الدراسات لا تهتم بالفقراء ـ وكان السؤال التالى هو أنه لماذا إنشاء مدن جديدة مع وجود مدن خالية؟ وبالطبع لا رد!
وحينما قلت لها أن هذه عروض غربية للمدن لا تتفق مع ثقافتنا ـ كل حديثنا كان فى فترة استراحة الشاى ـ قالت لا ليس هكذا الأمر فأنت صاحب الخيار فى اختيار شكل منزلك!!!، ويمكنك الاعتراض على الشكل المعروض وتختار شكل آخر!!!، وهى بهذا تضع لنا حرية غير موجودة على أرض الواقع، فأدركت أنها تهرب من مثل هذه الأسئلة بأسلوب لطيف، فتركتها.
وجب أن أقول شئ غاية فى الأهمية وهو أن الأستاذة نسرين لحام كانت تستشهد بنموذج
إسرائيل ـ لا أتذكر هل كان فى إدارة إسرائيل العاصمة أم فى شئ آخر ـ فهبت فيها الدكتورة جليلة القاضى بقولها إسرائيل إسرائيل هى إيه الحكاية هو مفيش غير إسرائيل التى تستشهدى بها فاستدركت نسرين بأنها تعرض نموذج لا أكثر!!!

مدينة عالمية على أرض مصرية، أم مدينة أمريكية على أرض مصرية
وكان فى الجلسة الختامية التى تحدث فيها الأستاذ أحمد أبو زيد عن أن القاهرةيمكنك أن ترى تشاهد التاريخ الفرعونى والقبطى والإسلامى فى يوم واحد!، وهذا نادر!!!، وتحدث عن ثقافة المول وسلبياتها.
بالطبع أنا لم أذكر كل ماقيل من الحديث عن العشوائيات التى تحدث عنها الأستاذ عبد المولى إسماعيل، وكجلة أمكنة التى تحدث عنها الأستاذ علا خالد التى صدر منها أول عدد عام (1999 )، وبالتالى فعزيزى القارئ الصورة ليست كاملة بالنسبة لكط فأعتذر عن هذا التقصير.
وقالت الدكتورة هبة رؤوف عزت بأنه يجب أن نضع مقترحات تكون ركيزة للمؤتمرات القادمة، وكان من هذه المقترحات والأسئلة التى قالها الحضور الكريم:
  • إنشاء شرايين بين القاهرة وظهيرها الصحراوى.
  • تفعيل دور المحليات: بالدراسة والتخطيط وغعطاء صلاحيات أكبر.
  • هناك طاقات وأفكار ولكن المهم التنفيذ.
  • خلق حالة من التواصل بين بين مراكز الدراسات ومراكز النجتمع المدنى.
  • عدم توقف الأمر على القاهرة فقط والنظر للمدن الآخرى.
  • يجب مشاركة الناس فى تخطيط مدنهم.
  • كيف نخرج من القاهرة؟
  • هناك فارق بين العشوائيات والحارة المصرية ويحب أن ننتبه لهذا.
  • خلق توازن بين القاهرة والصعيد حتى لا يأتى الكل إلى القاهرة.
  • نيل القاهرة همزة وصل أم همزة فصل؟
ولكنى حينما ذهبت للبيت فكرت فى الأمر وكتب عدة نقط
  • إستكمال تجربة خليل شعت ومتابعتها وتطبيقها فى أماكن آخرى.
  • يجب مواجهة القاهرة 2030و2050 منا نحن بإنشاء بحوث للخروج من هذه الأزمة.
  • إشراكالرأى العام من أحزاب وسياسيين ومثقفين وإعلاميين حتى يكون برنامج عام.

وبما أننى لم أذكر كل شئ فإننى سأراسل الدكتورة هبة رؤوف عزت لكى ترسل لنا أوراق المؤتمر لكى ننشرها حتى يسهل للراغبين فى التعرف على مشاكل القاهرة الإطلاع أكثر، وعلى المهتمين بمشاكل القاهرة أن يراسلوا الدكتورة هبة لكى يتم توحيد الجهود.

بقى شئ واحد لطيف وهو أن الدعوة التى جائتنى من الدكتورة هبة جائتنى عن طريق الخطا فأنا لم أكن المقصود بالدعوة وقد وجدت فى أجندتى أننى كتبت "أخطات فى النداء وأصبت فى التلبية" وهى أننى رغم أن الرسالة جائتنى عن طريق الخطأ إلا أننى أصبت فى الذهاب إلى هذا المؤتمر .
هناك مجموعة صور إلتقطها ولكن للاسف ليست متاحة الآن، حينما تتاح سوف أعرضها.


الخميس، يناير ٠٧، ٢٠١٠

الإسلام بين الدعوة والصحوة


لم يكن خروج رجل فى شبه الجزيرة العربية ليقيم دولة وإمبراطورية ويغزو البلاد شرقًا وغربًا.

بالطبع لم يكن كذلك.

ولم يكن أيضًا رجلاً خرج إلى الناس ليدخلهم صوامع ومساكن يتعبدون فيه الله لا يضرهم من ضل أو اهتدى.

بل جاء النبى صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الضلمات (الحيوانية) إلى النور (الإنسانية)

فقام فيهم مرشداً. وقام فيهم قائدًا لدولة الإسلام، ليس لحماية الدين فقط، ولكن لكى يكتمل هذا الدين، فلإسلام ليس مجرد عبادات وهو أيضًا ليس ليس مجرد دولة أو نظام يحكم نيابة عن الرب.

لقد جاء الدين بأوامر ونواهى للفرد وللمجتمع. فليس صحيحًا أنه جاء ليصلح ما بين العبد وربه وحسب. ولكن جاء ليمتد هذا الصلاح الذى بينه وبين الله ‘لى المجتمع (الأمة).

ولما كان حالنا الآن لا يقوم على أساس الدين الصحيح (الفرد والجماعة معًا)، كان لابد للنظر لهذه الهنة (السقطة)

فيستعرض الدكتور محمد سعيد رمضان البوطى فى كتابه الرائع الماتع (التعرف على الذات) (التعرف على الذات هو الطريق المعبد إلى الإسلام) أن سائر مظاهر التخلف التى رانت على العالم الإسلامى كانت بسبب عاملين:

أولهما: الإنبهار بمظاهر النهضة الأوربية.

وقد أورث هذا الإنبهار شعورًا بالنقص، وريبة فى حقيقة الدين ورغبة أن يعامل الإسلام هنا كما عوملت النصرانية هناك إبان النهضة الأوربية.

ثانيهما: بقايا الثورة الهائجة على قيود الكنيسة .

وكان هذا خلال النصف الأول من القرن العشرين

ولكن الذى طرأ بعد ذلك امران:

1- زوال الإنبهار الذى كان قد غشّى على أبصار الأمة الإسلامية.

2- سكون بقايا تلك الثورة المعتلجة فى صدور الغربيين.

وجرى فى الماء الذى بين الشرق والغرب الكثير، فبعد ان كان الإشمئزاز من الدين أصبح التطلع إلى المناقشة والحوار والبحث عن الجذور الواحدة للأديان لتعقد بينها صلحًا حقيقيًا يمكن لاعتماد عليه فى حل مشكلات الحضارة.

ويتسأل الدكتور البوطى: هل لهذه التحولات أثر على تقويم حقيقة الدعوة الإسلامية سواء من حيث أهميتها الذاتية، أو من حيث ما قد يجب أن تتقيد به من منهج وأسلوب؟

ويجيب الشيخ الجليل: بأن الأهمية الذاتية للدعوة الإسلامية قد تضاعفت، وأن واجب النهوض بها أصبح أشد أهمية وأكثر اتساعًا. ويقول أن هذه المهمة قد تحولت من الفروض الكفائية ـ فى أغلب الأحقاب التى خلت ـ إلى فرض عين.

وأما عن المنهج الأمثل للدعوة فيرى أن أهم الدعائم الكلية الهامة لنجاح المسلمين فى القيام بأعباء الدولة الإسلامية هى عدة شروط:

1- المعرفة: فيجب أن يكون الداعى إلى الله على بينة من حقيقة الإسلام وأن يعرف الناس به ويدعوهم إليه.

ترى، هل الإسلام مذهب فكرى أو سلوكى يقارع غيره من المذاهب المماثلة؟ أم هو مذهب ينافس المذاهب الأخرى؟ أم هو جملة تشريعات وقوانين تنسخ بها بقية التشريعات؟ أم هو يمين فى مواجهة يسار أم يسار فى مواجهة يمين؟

ويتلطف بنا الكتاب فى تعريف الداعى إلى الله مجموعة أشياء يجب أن يكون عالمًا بها منها أن الإسلام ليس مجموعة تشريعات ولا مذهب فكرى ، فهو ليس هذا ولا ذاك. ولكنه كما يدل عليه اسمه. استسلام مطلق لألوهية الله وحده، ثم انقياد لأمره ونهيه وقضائه.

ويشير غلى أن قوام الدين الحق الذى ألزم به عباده مكون من ثلاثة أركان: إيمان وإسلام وإحسان.

فمغرس الإيمان فى القلب، ومكان الإسلام الجسد كله، ومستقر الإحسان صلة ما بين القلب الذى آمن والجسد الذى استسلم.

ويرى أنه لا قيمة لدعوة الناس إلى اختيار منهج معين فى السلوك أو نظام متميز للحياة ، إلا الإصطباغ التام بالعبودية المطلقة لفاطر السماوات والأرض.

2- هو أن تشيع الدعوة أولاً فى صفوف المسلمين أنفسهم: ويرى أن مجرد انتشار الدعوة فى صفوف المسلمين هو فى حد ذاته دعوة.حتى إذا استقام أمرهم على النهج السليم، وتجسدت فى حياتهم حقائق الإسلام وفطرته وأخلاقه، انبثق لهم من ذلك لسان مبين يدعو الأمم الأخرى إلى اتباع دين الله عز وجل، وتجلى من سلوكهم أمام تلك الأمم خط مضئ يشق سبيله وسط أمواج الظلام وعكر المذاهب والأفكار المنحرفة. فكان من ذلك أهم عامل يحمل تلك الأمم على مزيد من الاهتمام بفهم الإسلام أولاً، ثم الاعتناق له والانصباغ به ثانيًا.

3- تلاقى الجهود بين الراعى والرعية: فلا قيمة لما قد تنفرد به فئات أو أفراد من المسلمين فى نطاق العمل الإسلامى، إذا لم تكن للدولة الحاكمة فى ذلك دور أساسى فعال، ولئن ظهر بعض الفوائد والأثار فهى لا تعدو أن تكون أثارًا جزئية، ويغلب أن تكون مع ذلك سطحية ومؤقته.

فالذين يرشدون ويوجهون إنما يجتازون بالناس عقبة نظرية فقط، وتبقى من بعدها مرحلة السعى إلى التنفيذ ، وهى مليئة بالعقبات والمعوقات.. ولا يقدر على تذليل تلك العقبات وإزاحة المعوقات، إلا قادة المسلمين وأولو الأمر فيهم.

وما أظن إلا أن هذه المسؤلية، هى التى يجسدها ويعبر عنها الأثر القائل: إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن

ويرى شيخنا أن من الخير أن نبحث عن السبب الذى أفقد روح التعاون الحقيقى بين المتحرقين على الدعوة الإسلامية من آحاد المسلمين والقائمين على أمرهم من القادة والحكام!

إن السبب، بكلمة جامعة مختصرة، هو السياسة!

لقد كانت كلمة “السياسة” تعنى فيما مضى سلوك سبيل الحكمة والتعقل إلى الهدف المنشود. فكانت مطية زلولاً وسبيلاً معبدة إلى بلوغ الغايات السامية. ولكن تحولت هذه الكلمة إلى ألوان معقدة من المناورات والمحاولات ووجه التعامل بين القادة. وتحول من وسيلة إلى وسيلة وغاية فى نفس الوقت!!

ونظر شيخنا. فرأى : أن الدين ذاته واحد من الوسائط الخادمة!.. فما اكثر ما يستنطق الدين بما نهواه السياسة.

مع العلم أن الله جل شأنه، ما أنزل الدين على عباده إلا كبحًا لجماع الرعونات، وجمعًا لشتات الآراء، وإزالة لأحقاد القلوب وسخائم النفوس. فمعاذ الله أن تكون له وجوه متعددة يصانع بها أرباب السياسة وأبطال الكرّ والفر، ليفوز برضوان الجميع!..

إن علينا جميعً أن ندرك أن العمل السياسى فى أيدى قادة الأمة الإسلامية، ليس إلا سلاحًا لخدمة الإسلام وإقامة المجتمع الإسلامى فوق أرفع ذرى الأرض

الجمعة، يناير ٠١، ٢٠١٠

مالك بن نبى.. إحكى يا مالك


هذه متعة عقلية لا تقارن إذا كنت من محبى الحياة السريعة والصاخبة، بالطبع أنت لن تجد ماكدونالدز وبيتزا هت ولا حتى مؤمن، وكذلك أنت لن تجد أغانى الدقيقة ولا نانسى وهيفا ـ حيث كل ما ذكرت أصبح مقترن بالحياة السريعة فى الوقت الحاضر ـ ولكن هذا الرجل لم يهدأ له بال، أنا أطلقت عليه الرجل الباحث فهو دائمًا يسأل ماذا أفعل؟ على مدار الكتاب ستجد هذه الجملة تتكرر كثيرًا، فهو ينتقل من مكان لآخر ومن حال لحال فى سرعة ليس لها مثيل، هو دائمًا ما يكون هنا ويسير عليه أن يذهب إلى هناك ـ دعك من أن الظروف تضطره إلى ذلك فى بعض الأحيان ـ ولا تسألنى أين هنا وأين هناك فهى كثيرة، فى هذا الكتاب ستعرف على كثير من مشكلات الحركة الإسلامية والثقافية وعيوب الصوفية.
ستتعرف على الجزائر وفرنسا، ستركب السفن والقطارات، ستير فى الشوارع وتجلس فى الميادين.
بالرغم من أن كاتب المذكرات هو مالك بن نبى إلا أن هذا الأسم لم يرد قط فى المذكرات بل إن اسمه الوارد السيد الصديق، ربما يكون السيد لقب ولكن ماذا عن الصديق.
وهذا الكتاب
حقًا جولة فى عالم المثقفين والسياسيين والحركات الإسلامية، كل هؤلاء تجدهم فى هذا الكتاب، ستتعرف على بعض ما أصاب الجماهير الغفيرة والمثقفين من أمراض.
يستعرض مالك أو السيد الصديق بعض المشكلات خصوصًا داء الكلام فيقول " فتحت فى الجزائر محابس
الكلام، فاستولى على كل فرد داء الكلام كلامه أو كلام جاره، وإنه لداء قتال!
حتى إن بعض المصابين كان ذات يوم مع الجمهور التبسى ـ نسبة إلى تبسة فى الجزائر ـ، يستمع إلى الخطباء يتكلمون بقاعة المهرجانات، فطلب الكلمة فلم تعط له، فصرخ:
- إنى سأنفجر إن لم أتكلم ! ..
فأراد بعض الحاضرين أن يتفادو الانفجار فقالوا:
- أعطوه الكلمة ! .. أعطوه ! ..
قفز المريض على المنصة ومكنسة بيده، لا أدرى أين وجدها وقال:
- يجب أن نكنس الاستعمار هكذا ! ..
هذا كل ما قاله وهو يلوح بالمكنسة ، ثم نزل مرتاحًا كمن تنفس بعد ضاق صدره؛ ولا يستطيع أحد تقدير ما تكبدنا من خسائر جوهرية منذ استولى علينا مرض الكلام، ومنذ أصبح المجتمع سفينة تائهة.
كانت الأفكار قبل ذلك صافية، والنوايا خالصة صادقة، والقلوب رحيمة خيرة ، فاستحال كل ذلك إلى الخلط والخبط والتباغض والانتهازية والثرثرة."
وله مقولة جميلة للتعبير عن كل هذا فيقول السيد الصديق كل ذى أذن أصبح ذا فم يتكلم.
ولبعض المثقفين أمراض، فيعتل عقله ويمرض فكره ويتبدل انتمائه، فيروى السيد الصديق أن واحدًا قام خاطبً
ا فى الناس هو حمودة بن الساعى ـ صديق السيد الصديق ـ فقال له، إننى لا أعتقد أن هذه المحاضرة من تحرير حمودة بن الساعى، ولا من بنات فكره ، فبعض جملها سبق وتكرر على مسمعى كأننى طالعتها فى إحدى المجلات الشرقية.
وهنا يقول
السيد الصديق " لم أكن قد عرفت بعد أنها حالة مرضية تعترى غالبية حاملة الثقافة عندنا،فإن كانت ثقافتهم تقليدية فمثلهم الأعلى فى الشرق، وإن كانت عصرية فمثلهم الأعلى فى فرنسا.
وبالأحرى لم أكن أعرف أن هذه الحالة المرضية تعترى كل مثقفى العالم الإسلامى ، إذ تراهم يعانون مركب نقص نحو الثقافة الغربية ، وإنما تتخذ هذه الحالة عندنا ازدواجية بسبب ما يعانى الشباب تجاه ( طه حسين ) من ناحية وتجاه ( فرانسوا فانون ) من ناحية أخرى، لأن التكوين غالبًا ما يكون أدبيًا.
وهى بالتالى ظاهرة عامة: إن كل مجتمع فقد حضارته يفقد بذلك كل أصالة فى التفكير، أو فى السلوك أمام أفكار الأخرين.
ويستعرض حادثة تدل على مرض المثقفين حيث دعى لندوة كان المتحدث فيها برنارد لوكاش رئيس المنظمة اليهودية ، وحينما قام مالك بن نبى للرد عليه، تلطف به واستعرض وحشية الوضع الاستعمارى فى الجزائر وكان يلاحظ بعض الانكماشات على وجه برنارد ليس لأنه فوجئ بالصورة ، إذ هو يعرفها بحذافيرها، بل لأنه كان ينتظر من مالك الفظاظة والعجرفة التى تجرح العواطف عوض أن تنيرها، كان ينتظر منه ذلك لمعرفته بأسلوب المثقفين بنوعيه، فإما الإطراء والمدح أو التهريج والتهييج.

وحينما جاء الدكتور ( بومالى ) يحذر النواب من الاستقالة فقال له مالك "..
-إنك إذن قد أتيت بإنذار لمدينة تبسة.. يا دكتور.
قلت له هذه الكلمات وحدقت فيه البصر، فتنحى من وجهى قليلاً......
وفى تلك اللحظة أدركت تمامً الموقف: إن النخبة المثقفة ولجت بكل وضوح طريق الخيانة، وإن الاستعمار بدأ يستخدم الزعماء لإلقاء الحيرة والريبة فى الضمائر، مفضلاًَ هذه الطريقة على ( اتخاذ الإجراءات الصارمة ) التى لا تزيد إرادة الشعب إلا صلابة.
وينتقد مالك بن نبى فكرة نقل القيادة من الفقهاء والعلماء إلى أصحاب الطرابيش " لقد فقدت الكلمة قيمتها بانتقالها من النادى أو المسجد إلى المقهى، منذ سلّمتِ القيادة ( المعمّمة ) زمام الأمر للقيادة ( المطربشة )، حتى على رأس المؤتمر الجزائرى الإسلامى، الذى ذهب أول ضحية لهذا التسليم.
ومع هذا الشكل الذى يظهر ( محافظـًا ) إلا أنه فى موضع أخر يظهر ( إصلاحيـًا ) " كان يحرجنى التدخل حاكم صلح بين أخوين، يرى كل منهما نفسه أنه على صواب، الأول باسم تقاليد نسختها الأيام، والثانى باسم حرية تقرير المصير التى رسخت الأيام معناها فى الأذهان" فهو هنا يصف التقاليد بأنها نسخت.
بطبيعة الحال أغلب المفكريين اضطهدوا، وتعرضوا لمتاعب أو مشاكل، فلن يتوقف الأمر على مالك إذن، فهو كغيره ارتكب الجرم الأعظم والخطيئة المشينة والذنب الفادح وهو التفكير. فليرضى إذن بما سيلاقى.
فكان نشاطه المعادى للاستعمار فى فرنسا أن جائه نبأ سئ " دق الباب نبأ من تبسة، يخبرنى والدى أن رئيسه حاكم المدينة، أمر بنقله إلى مكان آخر.

بالطبع مصر حاضرة وبقوة ـ ليست قوة الحضور ولكن قوة الطغيان ـ حيث كان سيسافر إلى الحجاز عبر مصر، ولكن مصر أبت.
- لا أدرى هل هناك شيطان خاص بأبناء المستعمرات، يتتبع خطواتهم أينما يتوجهون، ولم يخطر ببالى وأنا أودع (أمى مورناس) ـ حماته ـ، وأدلى بالتوصيات الأخيرة لزوجى، وأخرج من بيتى معتقدًا أنه يكفى جزائريًا يعيش فى ظل الاستعمار، أن يكون فى جيبه جواز السفر وما يكفيه من النقود ليسفر فعلاً كأى إنسان.
وإذا اتبعنى فعلاً فى ذلك الصباح الشيطان، فإنه كان لا شك يضحك منى ويتهيأ ليعيش على حسابى أكبر مهزلة لعبها فى حياته اللعينة.
وصلت إلى باريس فتوجهت فى الحين نحو السفارة المصرية، وكان السفير يومئذ (فخرى باشا)، وعندما وصلت إلى بابها ودخلت، شعرت أننى وضعت أقدامى على أرض وطنى العربى أو الإسلامى أو الاثنين معًا.
فاستقبلنى أحد السعاة وطلب منى تحريرًا وتوقيع الاستمارات النعدة لطلب التأشيرات، فسلمتها له مع الجوازات ثم دلنى ساعٍ آخر على قاعة الانتظار، فوجد أوربيين وخاصة أوربيات لم أكن أعرف بعد ما يجذبهن لزيارة أبى الهول ولا سبب هوايتهن لمناظر النيل، ولا البضاعة الخاصة التى يروجونها على ضفتيه، تلك البضاعة التى ـ سأكتشف فيما بعد ـ لها رواج كبير فى البلاد العربية خاصة اليوم، بعد اكتشاف البترول والسيارات (المرسيدس) ـ لقد تغير الحال يا أستاذ وما عدنا نبيع ـ.

ومن حين لآخر يظهر الساعى فى مدخل القاعة، فينادى أحد المنتظرين ثم يرجع ينادى آخر، وربما يكون قد أتى بعدى، ولم يخامر ذهنى أن أعلق أى تعليق على ذلك متمسكًا بثقتى فى البشر وبالصبر الجميل.
ولكن القاعة بدأت تفرغ حولى، وإذا بالساعى ينادينى، فتنفست الصعداء فدخلت مكتب متسع الأرجاء عميق الأغوار.
إن مركبى الأفلام يعرفون استغلال هذه الظاهرة، فى بعض مقاطع تركيبهم عندما يضعون بين زائر يدخل مكتبًا ومن يستقبله فيه أكبر بعد ممكن، حتى تزيد كل خطوة من خطوات الزائر فى التفاعل بين الشخصيتين، وترتفع بقدر ذلك درجة التأثير المسرحى فى المقطع، خاصة إن كان الزائر يشعر، أو من يقوم بدوره يشعر، أنه يسير فى تلك الخطوات إلى مصيره.
كان يستقبلنى يومئذ قنصل مصر فى باريس، وعندما وصلت وجدت الجوازين على مكتبه:
- أتريد أن تسافر إلى مصر؟
شعرت بخبث السؤال، لأن نظرتى فى وجه القنصل لم تكن مريحة، فأجبت:
- إننى، إن شاء الله، مسافر إلى الحجاز كما ذكرت فى الاستمارات..
- إنك إذن تستطيع الحجز على باخرة تذهب مباشرة إلى جدة دون أى حاجة إلى تأشيرة إلى مصر.
- نعم سيدى كان ذلك أجدى، ولكن شركة (كوك) للأسفار أخبرتنى أن المواصلات المباشرة مفقودة بين مرسيليا وجدة، وأشار على موظفها بأننى سأجد بميناء السويس الباخرة التى تنقلنى إلى ميناء الحجاز، فتوسمت فى الرجل طبيعة ساذجة يتنعم بألم الآخرين، ولا يتراجع عن شر قدّره أو أمر بتنفيذه، حتى كان من العبث أن يحاول المرء إيقاظ ضميره.
فارتجت الأرض تحت أقدامى، فحوقلت، ورجعت وأخذت الجوازات وخرجت، ونفسى تردد الترجيع فى خطوة، وفى أخرى [ إن الرجل صنيعة ] ، لأن الجانب الشيطانى قد اتضح فى الأمر: إن الاستعمار يستطيع أن يتمسك فى بعض الحالات بمظاهر المشروعية، لأن خونة من بين العرب ومن بين المسلمين يتولون الأمر، للقيام بالدور الذى لا تسمح له به كبرياؤه فى تلك الحالات.
وهو يميل إلى الفكرة الوهابية "الأمر الذى لا شك فيه، والذى كنت حسب اعتقادى أعلم المسلمين به، هو أن الاستعمار كان يتضايق كثيرًا من تولى الدولة السعودية على الأرض المقدسة، لأنها ستصبح هكذا منارة إشعاع للفكرة (الوهابية)، يعنى فى نظرى سيطة الفكرة الإسلامية التى تصلح بما فيها من طاقة متحركة، لتحرير العالم الإسلامى المنهار منذ سقوط خلافة بغداد"
وظل مالك بن نبى يبحث ويسأل مذا أفعل الآن؟ ظل هذا السؤال يتردد كثيرًا، فهو يقف عند هذا النقطة يلتقط أنفاسه ويسأل ماذا أفعل الآن؟ وهكذا هو لا يتوقف عن المضى قدمًا فيما يريد ـ إذا وفقه الله سار وإلا سأل نفسه ـ ويتوقف ليسأل نفسه ماذا أفعل الآن؟
وكما سب سيدنا النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو حى، فهو يسب الآن، لا فرق، وسب أيضًا فى عهد مالك بن نبى، حيث كتبت أبيات شعرية على بناية، فى فرنسا، فيها إهانة للنبى العظيم. فتأثر مالك...
"ورجعت إلى غرفتى فى سأعة متأخرة ليلاً والأسى يصط عظامى، وألقيت نفسى على السرير يؤرقنى الألم، وعندما أطفأت النور انطلقت من شفتىّ لعنة على من يتجرأ هذه الجرأة العمياء على حرمة النبى، وانتهت اللعنة فى صورة تضرع:
- يا الله.. إن النبى تمس كرامته ولا تزلزل الأرض!!
ولم تكد هذه الكلمات تمر فى فكرى حتى شعرت بسريرى يتأرجح، وفجاة نسيت دار البا ـ التى كتب عليه الإهانة ـ والللافتة والطلبة ولم يبق فى ذهنى إلا فكرة واحدة:
- هذا شخص تحت السرير!.
فولعت النور على الفور، ولم يكن أحد تحت السرير بطبيعة الحال، ولكننى لم أشك فيما شعرت به من تأرجح دون أن أفسر الأمر بوجه.
وفى الغداة شرعت فى تحقيق لأتأكد، فسألت جيرانى فى الدور فلم يشعر أحدهم بشئ، ولكننى لما كنت كل يوم أحد أطالع الجريدة فتناولتها وأنا على سطح المقهى، وإذا بمقطع صغير ينقل نبأ من مرصد (جرنويش): إن هذا المرصد سجل الليلة هزة صغيرة.
وكانت ساعة الهزة تنطبق مع حركة سريرى، هذا هو الأمر، أفضى به كما هو لمن يريد أن يتأمله ولمن يريد أن يهزأ منه."
بالطبع هذه المذكرات شديدة الثراء والمتعة، وأنا أرى أنك لتتعرف على شخص ما يجب عليك أن تقرأ مذكراته، أو ترجمة له، ولكن هذه المذكرات يعيبها كثرة الأسماء حيث أن القارء ـ بطبيعة الحال ـ ليس مطلع عليهم ـ ولو كان عايشهم فى زمانهم فما بالك بزماننا ـ فلم يراعى الكاتب هذه الجزئية حيث لم يراعى أنه قد يقرأ شخص ما من بلد آخرى هذه الكلمات، ورغم أن هذا عيب إلا أنه يذكر أسماء الصحف ـ وهى كثير ـ وكأنه تأريخ وليس ذكر . فربما يستفيد المهتمين بتاريخ الناس والصحف بهذه المذكرات. وها أنا أعيب الإسهاب فى موضع إلا أننى أفتقده فى موضع آخر حيث لا يذكر لنا كيف تزوج زوجته الفرنسية، حيث تجد فى لحظة ما يذكر أنه تزوج وكأنك كنت حاضر معهم عقد القران فيعتقد أنك لست بحاجة إلى ذكر كيف تم التعارف والزواج، وأنا لا أكتب هذه الكلمات من باب الفضول ـ وإن كان الكاتب عودنى على هذا بذكره تفاصيل الحكايات والشخصيات والمواقف ـ ولكن من باب أن الأمر ليس فيه مشكلة، فهو ليس ذكر للخصوصيات ولا إقتحام للحرمات، وأعتقد أنه كان محرج أو خجل من ذكر هذا التفصيل ـ الصغير ـ وتأكيدى على هذا أنه فى مواضع آخرى يثنى على زوجته ثناءً جميلاًً، وكأنه أراد أن يعوض هذه بتلك. وهو فى هذه المذكرات أيضًا يذكر أنه تزوج بدون علم أهله، وتأخر فى إخبارهم. وعلى كل فهذه تفصيلة ـ يسيرة ـ شدة إنتباهى لجرأة مالك بالصدع بالحق وعدم خوفه من ذكر تفصيلة وإن كانت بها نقد له هو شخصيًا.
بالطبع لم أوف الكتاب حقه ولا الكاتب مالك بن نبى، ولكن هذا بعض ما جذبنى فى هذه المذكرات، وأنا أدعوكم لقراءة هذه المذكرات..
فهى حقًا مذكرات شاهد للقرن.