الجمعة، يناير ٠١، ٢٠١٠

مالك بن نبى.. إحكى يا مالك


هذه متعة عقلية لا تقارن إذا كنت من محبى الحياة السريعة والصاخبة، بالطبع أنت لن تجد ماكدونالدز وبيتزا هت ولا حتى مؤمن، وكذلك أنت لن تجد أغانى الدقيقة ولا نانسى وهيفا ـ حيث كل ما ذكرت أصبح مقترن بالحياة السريعة فى الوقت الحاضر ـ ولكن هذا الرجل لم يهدأ له بال، أنا أطلقت عليه الرجل الباحث فهو دائمًا يسأل ماذا أفعل؟ على مدار الكتاب ستجد هذه الجملة تتكرر كثيرًا، فهو ينتقل من مكان لآخر ومن حال لحال فى سرعة ليس لها مثيل، هو دائمًا ما يكون هنا ويسير عليه أن يذهب إلى هناك ـ دعك من أن الظروف تضطره إلى ذلك فى بعض الأحيان ـ ولا تسألنى أين هنا وأين هناك فهى كثيرة، فى هذا الكتاب ستعرف على كثير من مشكلات الحركة الإسلامية والثقافية وعيوب الصوفية.
ستتعرف على الجزائر وفرنسا، ستركب السفن والقطارات، ستير فى الشوارع وتجلس فى الميادين.
بالرغم من أن كاتب المذكرات هو مالك بن نبى إلا أن هذا الأسم لم يرد قط فى المذكرات بل إن اسمه الوارد السيد الصديق، ربما يكون السيد لقب ولكن ماذا عن الصديق.
وهذا الكتاب
حقًا جولة فى عالم المثقفين والسياسيين والحركات الإسلامية، كل هؤلاء تجدهم فى هذا الكتاب، ستتعرف على بعض ما أصاب الجماهير الغفيرة والمثقفين من أمراض.
يستعرض مالك أو السيد الصديق بعض المشكلات خصوصًا داء الكلام فيقول " فتحت فى الجزائر محابس
الكلام، فاستولى على كل فرد داء الكلام كلامه أو كلام جاره، وإنه لداء قتال!
حتى إن بعض المصابين كان ذات يوم مع الجمهور التبسى ـ نسبة إلى تبسة فى الجزائر ـ، يستمع إلى الخطباء يتكلمون بقاعة المهرجانات، فطلب الكلمة فلم تعط له، فصرخ:
- إنى سأنفجر إن لم أتكلم ! ..
فأراد بعض الحاضرين أن يتفادو الانفجار فقالوا:
- أعطوه الكلمة ! .. أعطوه ! ..
قفز المريض على المنصة ومكنسة بيده، لا أدرى أين وجدها وقال:
- يجب أن نكنس الاستعمار هكذا ! ..
هذا كل ما قاله وهو يلوح بالمكنسة ، ثم نزل مرتاحًا كمن تنفس بعد ضاق صدره؛ ولا يستطيع أحد تقدير ما تكبدنا من خسائر جوهرية منذ استولى علينا مرض الكلام، ومنذ أصبح المجتمع سفينة تائهة.
كانت الأفكار قبل ذلك صافية، والنوايا خالصة صادقة، والقلوب رحيمة خيرة ، فاستحال كل ذلك إلى الخلط والخبط والتباغض والانتهازية والثرثرة."
وله مقولة جميلة للتعبير عن كل هذا فيقول السيد الصديق كل ذى أذن أصبح ذا فم يتكلم.
ولبعض المثقفين أمراض، فيعتل عقله ويمرض فكره ويتبدل انتمائه، فيروى السيد الصديق أن واحدًا قام خاطبً
ا فى الناس هو حمودة بن الساعى ـ صديق السيد الصديق ـ فقال له، إننى لا أعتقد أن هذه المحاضرة من تحرير حمودة بن الساعى، ولا من بنات فكره ، فبعض جملها سبق وتكرر على مسمعى كأننى طالعتها فى إحدى المجلات الشرقية.
وهنا يقول
السيد الصديق " لم أكن قد عرفت بعد أنها حالة مرضية تعترى غالبية حاملة الثقافة عندنا،فإن كانت ثقافتهم تقليدية فمثلهم الأعلى فى الشرق، وإن كانت عصرية فمثلهم الأعلى فى فرنسا.
وبالأحرى لم أكن أعرف أن هذه الحالة المرضية تعترى كل مثقفى العالم الإسلامى ، إذ تراهم يعانون مركب نقص نحو الثقافة الغربية ، وإنما تتخذ هذه الحالة عندنا ازدواجية بسبب ما يعانى الشباب تجاه ( طه حسين ) من ناحية وتجاه ( فرانسوا فانون ) من ناحية أخرى، لأن التكوين غالبًا ما يكون أدبيًا.
وهى بالتالى ظاهرة عامة: إن كل مجتمع فقد حضارته يفقد بذلك كل أصالة فى التفكير، أو فى السلوك أمام أفكار الأخرين.
ويستعرض حادثة تدل على مرض المثقفين حيث دعى لندوة كان المتحدث فيها برنارد لوكاش رئيس المنظمة اليهودية ، وحينما قام مالك بن نبى للرد عليه، تلطف به واستعرض وحشية الوضع الاستعمارى فى الجزائر وكان يلاحظ بعض الانكماشات على وجه برنارد ليس لأنه فوجئ بالصورة ، إذ هو يعرفها بحذافيرها، بل لأنه كان ينتظر من مالك الفظاظة والعجرفة التى تجرح العواطف عوض أن تنيرها، كان ينتظر منه ذلك لمعرفته بأسلوب المثقفين بنوعيه، فإما الإطراء والمدح أو التهريج والتهييج.

وحينما جاء الدكتور ( بومالى ) يحذر النواب من الاستقالة فقال له مالك "..
-إنك إذن قد أتيت بإنذار لمدينة تبسة.. يا دكتور.
قلت له هذه الكلمات وحدقت فيه البصر، فتنحى من وجهى قليلاً......
وفى تلك اللحظة أدركت تمامً الموقف: إن النخبة المثقفة ولجت بكل وضوح طريق الخيانة، وإن الاستعمار بدأ يستخدم الزعماء لإلقاء الحيرة والريبة فى الضمائر، مفضلاًَ هذه الطريقة على ( اتخاذ الإجراءات الصارمة ) التى لا تزيد إرادة الشعب إلا صلابة.
وينتقد مالك بن نبى فكرة نقل القيادة من الفقهاء والعلماء إلى أصحاب الطرابيش " لقد فقدت الكلمة قيمتها بانتقالها من النادى أو المسجد إلى المقهى، منذ سلّمتِ القيادة ( المعمّمة ) زمام الأمر للقيادة ( المطربشة )، حتى على رأس المؤتمر الجزائرى الإسلامى، الذى ذهب أول ضحية لهذا التسليم.
ومع هذا الشكل الذى يظهر ( محافظـًا ) إلا أنه فى موضع أخر يظهر ( إصلاحيـًا ) " كان يحرجنى التدخل حاكم صلح بين أخوين، يرى كل منهما نفسه أنه على صواب، الأول باسم تقاليد نسختها الأيام، والثانى باسم حرية تقرير المصير التى رسخت الأيام معناها فى الأذهان" فهو هنا يصف التقاليد بأنها نسخت.
بطبيعة الحال أغلب المفكريين اضطهدوا، وتعرضوا لمتاعب أو مشاكل، فلن يتوقف الأمر على مالك إذن، فهو كغيره ارتكب الجرم الأعظم والخطيئة المشينة والذنب الفادح وهو التفكير. فليرضى إذن بما سيلاقى.
فكان نشاطه المعادى للاستعمار فى فرنسا أن جائه نبأ سئ " دق الباب نبأ من تبسة، يخبرنى والدى أن رئيسه حاكم المدينة، أمر بنقله إلى مكان آخر.

بالطبع مصر حاضرة وبقوة ـ ليست قوة الحضور ولكن قوة الطغيان ـ حيث كان سيسافر إلى الحجاز عبر مصر، ولكن مصر أبت.
- لا أدرى هل هناك شيطان خاص بأبناء المستعمرات، يتتبع خطواتهم أينما يتوجهون، ولم يخطر ببالى وأنا أودع (أمى مورناس) ـ حماته ـ، وأدلى بالتوصيات الأخيرة لزوجى، وأخرج من بيتى معتقدًا أنه يكفى جزائريًا يعيش فى ظل الاستعمار، أن يكون فى جيبه جواز السفر وما يكفيه من النقود ليسفر فعلاً كأى إنسان.
وإذا اتبعنى فعلاً فى ذلك الصباح الشيطان، فإنه كان لا شك يضحك منى ويتهيأ ليعيش على حسابى أكبر مهزلة لعبها فى حياته اللعينة.
وصلت إلى باريس فتوجهت فى الحين نحو السفارة المصرية، وكان السفير يومئذ (فخرى باشا)، وعندما وصلت إلى بابها ودخلت، شعرت أننى وضعت أقدامى على أرض وطنى العربى أو الإسلامى أو الاثنين معًا.
فاستقبلنى أحد السعاة وطلب منى تحريرًا وتوقيع الاستمارات النعدة لطلب التأشيرات، فسلمتها له مع الجوازات ثم دلنى ساعٍ آخر على قاعة الانتظار، فوجد أوربيين وخاصة أوربيات لم أكن أعرف بعد ما يجذبهن لزيارة أبى الهول ولا سبب هوايتهن لمناظر النيل، ولا البضاعة الخاصة التى يروجونها على ضفتيه، تلك البضاعة التى ـ سأكتشف فيما بعد ـ لها رواج كبير فى البلاد العربية خاصة اليوم، بعد اكتشاف البترول والسيارات (المرسيدس) ـ لقد تغير الحال يا أستاذ وما عدنا نبيع ـ.

ومن حين لآخر يظهر الساعى فى مدخل القاعة، فينادى أحد المنتظرين ثم يرجع ينادى آخر، وربما يكون قد أتى بعدى، ولم يخامر ذهنى أن أعلق أى تعليق على ذلك متمسكًا بثقتى فى البشر وبالصبر الجميل.
ولكن القاعة بدأت تفرغ حولى، وإذا بالساعى ينادينى، فتنفست الصعداء فدخلت مكتب متسع الأرجاء عميق الأغوار.
إن مركبى الأفلام يعرفون استغلال هذه الظاهرة، فى بعض مقاطع تركيبهم عندما يضعون بين زائر يدخل مكتبًا ومن يستقبله فيه أكبر بعد ممكن، حتى تزيد كل خطوة من خطوات الزائر فى التفاعل بين الشخصيتين، وترتفع بقدر ذلك درجة التأثير المسرحى فى المقطع، خاصة إن كان الزائر يشعر، أو من يقوم بدوره يشعر، أنه يسير فى تلك الخطوات إلى مصيره.
كان يستقبلنى يومئذ قنصل مصر فى باريس، وعندما وصلت وجدت الجوازين على مكتبه:
- أتريد أن تسافر إلى مصر؟
شعرت بخبث السؤال، لأن نظرتى فى وجه القنصل لم تكن مريحة، فأجبت:
- إننى، إن شاء الله، مسافر إلى الحجاز كما ذكرت فى الاستمارات..
- إنك إذن تستطيع الحجز على باخرة تذهب مباشرة إلى جدة دون أى حاجة إلى تأشيرة إلى مصر.
- نعم سيدى كان ذلك أجدى، ولكن شركة (كوك) للأسفار أخبرتنى أن المواصلات المباشرة مفقودة بين مرسيليا وجدة، وأشار على موظفها بأننى سأجد بميناء السويس الباخرة التى تنقلنى إلى ميناء الحجاز، فتوسمت فى الرجل طبيعة ساذجة يتنعم بألم الآخرين، ولا يتراجع عن شر قدّره أو أمر بتنفيذه، حتى كان من العبث أن يحاول المرء إيقاظ ضميره.
فارتجت الأرض تحت أقدامى، فحوقلت، ورجعت وأخذت الجوازات وخرجت، ونفسى تردد الترجيع فى خطوة، وفى أخرى [ إن الرجل صنيعة ] ، لأن الجانب الشيطانى قد اتضح فى الأمر: إن الاستعمار يستطيع أن يتمسك فى بعض الحالات بمظاهر المشروعية، لأن خونة من بين العرب ومن بين المسلمين يتولون الأمر، للقيام بالدور الذى لا تسمح له به كبرياؤه فى تلك الحالات.
وهو يميل إلى الفكرة الوهابية "الأمر الذى لا شك فيه، والذى كنت حسب اعتقادى أعلم المسلمين به، هو أن الاستعمار كان يتضايق كثيرًا من تولى الدولة السعودية على الأرض المقدسة، لأنها ستصبح هكذا منارة إشعاع للفكرة (الوهابية)، يعنى فى نظرى سيطة الفكرة الإسلامية التى تصلح بما فيها من طاقة متحركة، لتحرير العالم الإسلامى المنهار منذ سقوط خلافة بغداد"
وظل مالك بن نبى يبحث ويسأل مذا أفعل الآن؟ ظل هذا السؤال يتردد كثيرًا، فهو يقف عند هذا النقطة يلتقط أنفاسه ويسأل ماذا أفعل الآن؟ وهكذا هو لا يتوقف عن المضى قدمًا فيما يريد ـ إذا وفقه الله سار وإلا سأل نفسه ـ ويتوقف ليسأل نفسه ماذا أفعل الآن؟
وكما سب سيدنا النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو حى، فهو يسب الآن، لا فرق، وسب أيضًا فى عهد مالك بن نبى، حيث كتبت أبيات شعرية على بناية، فى فرنسا، فيها إهانة للنبى العظيم. فتأثر مالك...
"ورجعت إلى غرفتى فى سأعة متأخرة ليلاً والأسى يصط عظامى، وألقيت نفسى على السرير يؤرقنى الألم، وعندما أطفأت النور انطلقت من شفتىّ لعنة على من يتجرأ هذه الجرأة العمياء على حرمة النبى، وانتهت اللعنة فى صورة تضرع:
- يا الله.. إن النبى تمس كرامته ولا تزلزل الأرض!!
ولم تكد هذه الكلمات تمر فى فكرى حتى شعرت بسريرى يتأرجح، وفجاة نسيت دار البا ـ التى كتب عليه الإهانة ـ والللافتة والطلبة ولم يبق فى ذهنى إلا فكرة واحدة:
- هذا شخص تحت السرير!.
فولعت النور على الفور، ولم يكن أحد تحت السرير بطبيعة الحال، ولكننى لم أشك فيما شعرت به من تأرجح دون أن أفسر الأمر بوجه.
وفى الغداة شرعت فى تحقيق لأتأكد، فسألت جيرانى فى الدور فلم يشعر أحدهم بشئ، ولكننى لما كنت كل يوم أحد أطالع الجريدة فتناولتها وأنا على سطح المقهى، وإذا بمقطع صغير ينقل نبأ من مرصد (جرنويش): إن هذا المرصد سجل الليلة هزة صغيرة.
وكانت ساعة الهزة تنطبق مع حركة سريرى، هذا هو الأمر، أفضى به كما هو لمن يريد أن يتأمله ولمن يريد أن يهزأ منه."
بالطبع هذه المذكرات شديدة الثراء والمتعة، وأنا أرى أنك لتتعرف على شخص ما يجب عليك أن تقرأ مذكراته، أو ترجمة له، ولكن هذه المذكرات يعيبها كثرة الأسماء حيث أن القارء ـ بطبيعة الحال ـ ليس مطلع عليهم ـ ولو كان عايشهم فى زمانهم فما بالك بزماننا ـ فلم يراعى الكاتب هذه الجزئية حيث لم يراعى أنه قد يقرأ شخص ما من بلد آخرى هذه الكلمات، ورغم أن هذا عيب إلا أنه يذكر أسماء الصحف ـ وهى كثير ـ وكأنه تأريخ وليس ذكر . فربما يستفيد المهتمين بتاريخ الناس والصحف بهذه المذكرات. وها أنا أعيب الإسهاب فى موضع إلا أننى أفتقده فى موضع آخر حيث لا يذكر لنا كيف تزوج زوجته الفرنسية، حيث تجد فى لحظة ما يذكر أنه تزوج وكأنك كنت حاضر معهم عقد القران فيعتقد أنك لست بحاجة إلى ذكر كيف تم التعارف والزواج، وأنا لا أكتب هذه الكلمات من باب الفضول ـ وإن كان الكاتب عودنى على هذا بذكره تفاصيل الحكايات والشخصيات والمواقف ـ ولكن من باب أن الأمر ليس فيه مشكلة، فهو ليس ذكر للخصوصيات ولا إقتحام للحرمات، وأعتقد أنه كان محرج أو خجل من ذكر هذا التفصيل ـ الصغير ـ وتأكيدى على هذا أنه فى مواضع آخرى يثنى على زوجته ثناءً جميلاًً، وكأنه أراد أن يعوض هذه بتلك. وهو فى هذه المذكرات أيضًا يذكر أنه تزوج بدون علم أهله، وتأخر فى إخبارهم. وعلى كل فهذه تفصيلة ـ يسيرة ـ شدة إنتباهى لجرأة مالك بالصدع بالحق وعدم خوفه من ذكر تفصيلة وإن كانت بها نقد له هو شخصيًا.
بالطبع لم أوف الكتاب حقه ولا الكاتب مالك بن نبى، ولكن هذا بعض ما جذبنى فى هذه المذكرات، وأنا أدعوكم لقراءة هذه المذكرات..
فهى حقًا مذكرات شاهد للقرن.




هناك ٣ تعليقات:

حسن الحازمي يقول...

اشكرك اخي عبدالله على هذا الطرح الماتع

فانا من المهتمين بفكر مالك بن نبي

صــفاء يقول...

طرح مميز .
مساء أمس كنت أقرأ له كتيب صغير وجدته بين أكوام الكتب القديمة التي اقتناها أبي في العام 1982 ! وكان الكتيب يتكلم عن "اليسار " وانخداع شباب مصر بهذا الشعار المزيف وان اليسار هو فكر غبي لم ينشأ على مبدأ ولا على اسس !

نفع الله جميع المسلمين بكتابات هذا الفلسوف الجزائري .. وموعدنا الليلة مع "رأيت الله " لمصطفى محمود .

وفقكم الله

Abdullah Khalaf يقول...

لا شكر على واجب
فهذا أقل القليل
وأشكر لكم مروركم الكريم
وفقكم الله وجزاكم خيرًا
أخى حسين الحازمى
أختى فتاة
دمتم بخير